فصل: مطلب: في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: إغواء إبليس لآدم وحواء وخروجهما من الجنة وإسكانهما الأرض:

قالوا إن إبليس بعد أن طرد من الجنة أراد دخولها لإغواء آدم وزوجته فلم يمكنه خزنتها من ذلك، فأتى صديقته الحية فأدخلته في فيها، وفي أثناء تعرضه لآدم سمعه يقول لو أن خلودا، فاغتنم الملعون هذه الكلمة وعدها فرصة لإغوائهما، وتمثل باكيا، فقال له آدم ما يبكيك؟ قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان هذا النعيم، فاغتما لذلك، ثم قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد؟ قالا بلى، قال هي التي نهاكما اللّه عنها، فأبيا قربانها، ثم حلف لهما بأنه ناصح لهما وأن اللّه لم ينهكما عن مثلها، فصدقا لأنهما يتحققان أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا، ولا يجرؤ أحد أن يكذب على اللّه، فأكلت حواء من مثل تلك الشجرة، وناولت آدم، فأكل منها فتهافتت عنهما ثيابهما، وبدت لهما سوءاتهما، وقال اللّه يا آدم ما حملك على ما فعلت؟
قال يا رب غرّني عدوك ولم أظن أنه سيحلف بك كاذبا، وإن حواء هي التي بدأت بالأكل مما نهيتنا عنها، قال وعزتي وجلالي لأهبطنك إلى الأرض فلا تنال عيشك فيها إلا نكدا.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا} الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاع إِلى حِينٍ} انقضاء آجالكم فيها، فأهبط آدم على جبل نود في سرنديب من أرض الهند، وحواء في جدّة من أرض الحجاز، وإبليس في نجد، والحيّة بأصبهان من أرض العجم، وقيل إن إبليس أهبط بالأيلة من أرض البصرة، فحرث آدم وزرع وسقى وحصد وداس وذرّى وطحن وعجن وخبز بمعاونة زوجته حواء التي اجتمع بها بعد الهبوط وبإلهام من اللّه تعالى حتى بلغ منه الجهد، وأكل هو وزوجته من كدهما، وقال إن حواء لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرما ولتدمي مرتين في الشهر، فرنت حواء عند ما سمعت كلام اللّه أي نظرت وتأملت عاقبته وحزنت، فقيل لها عليك وعلى بناتك الرنة.
واعلم أن هذا واقع من آدم عليه السلام قبل تشرفه بالنبوة وما قيل بعدم قتل الحيات خوفا من ثأرهنّ أو تأثما لا صحة له، بل ينبغي قتلها لأنها من المؤذيات، وقد جاء في الخبر أن في قتلها عشر حسنات.
أخرج أبو داود عن ابن عباس قال:
قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمناهنّ منذ حاربناهن.
وله عن ابن مسعود قال إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف من ثأرهن فليس مني.
وفي رواية اقتلوا الكبار كلها إلا الجانّ الأبيض الذي كأنه قضيب فضة.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان.
وفي رواية أن في هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فخرجوا عليه ثلاثا، فإذا ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر.
ومما يدل على أن ما وقع من آدم قبل النبوة قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ} كانت سببا لقبول توبته، والتلقي قبول الكلام عن فهم وفطنة، والكلمات هي قوله تعالى: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} [الآية: 23] من الأعراف، وتدل فاء التعقيب على أن توبته كانت عقب هبوطه بلا مهلة، وهذا ما ينافي القول بأن اللّه تعالى ألهمه أركان الحج وأمره أن يحج ويقول اللهم اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي.
وما قيل إنه بقي ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من ربه، ينفيه قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْهِ} عقب دعائه هذا الذي لقّنه له ربه: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} كثير الرجوع على عباده بقولهم إذا تابوا وأنابوا: {الرَّحِيمُ} كثير الرحمة بهم لرأفته عليهم.
قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا} الأمر للأربعة المذكورين آنفا، وهو تأكيد للأمر الأول لما فيها من زيادة كلمة {مِنْها} لبيان أن الهبوط من الجنة، وزيادة لفظ {جَمِيعًا} للتوكيد على أن المراد الأربعة كلهم لا بعضهم ولما نيط به من زيادة قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} يؤدي بكم إلى الجنة التي أخرجتما منها.
وما قيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا، والأخير من سماء الدنيا إلى الأرض يرده قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرّ} الآية، وفي هذه الجملة الأخيرة دلالة على جواز الجمع فيما زاد على الواحد، لأن الهدى لآدمو زوجته خاصة ولا يتصور دخول إبليس والحية فيه، لأن إبليس محتم دخوله في جهنم على طريق التأبيد، والحية قطعا تكون ترابا كسائر الحيوانات كما مر آخر سورة النبأ، والقول بخلاف هذا يعارض النص، وكل ما خالف النص لا عبرة به، وما قيل إن المراد هما وذريتهما فيه بعد أيضا إذ لم يكن لديهما ذرية إذ ذاك ولم يتصورانها: {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ} المنزل إليه: {فَلا خَوْف عَلَيْهِمْ} من الشدائد والأهوال في الدنيا والآخرة: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [38] على ما فاتهم من نعيم الدنيا.
وفي هذه الآية دليل أيضا على أن آدم حينما أخرج من الجنة لم يكن نبيّا، وإلا لم يقل له ما جاء أول هذه الآية.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} بألوهيتنا وجحدوا وحدانيتنا، {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا} المنزلة على أنبيائنا في هذه الدنيا وماتوا على ذلك: {أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ} في الآخرة عقابا لتكذيبهم: {هُمْ فِيها خالِدُونَ} [39] أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وهذه أول وصية ذكرها اللّه تعالى لبني إسرائيل في القسم المدني.
قال تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} لمّا كان المخاطب بالآيات الثلاث عشرة، بعد الست الأولى في هذه السورة هم المنافقون وأكثرهم من اليهود ذرية يعقوب عليه السلام إسرائيل اللّه، جاء على ذكرهم ثانيا يذكرهم النعم التي أنعم بها على أسلافهم، وكلمة إسرا هي صفوة أو عبد وإيل معناها اللّه جل جلاله أي يا أولاد صفوة اللّه أو عبده تذكروا نعمة إنجائكم من آل فرعون، وإحلالكم أرضهم وديارهم، ونعما أخرى ستأتي تباعا.
واعلم أن النعم من اللّه على عبده قد تنحصر في ثلاثة أنواع: نعمة تفرد اللّه تعالى بها وهي إيجاد الإنسان ورزقه، ونعمة وصلت إليه بواسطة الغير ومكنه منها بتسخيرهم إليه فيها، ونعمة جعلت له بواسطة الطاعة وهي أيضا من اللّه الذي وفقه إليها، فتكون كلها منه تعالى إلى عبده وهو يقول أعطاني فلان وخلّصني فلان: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} المشار إليه في [الآية 27] كما وفّى به بعض آبائكم الأقدمين الذين تنعموا بتلك النعم بعد الذلّ والرق والقتل، نجعلناهم قادة وملوكا وأنبياء: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الذي وعدتكم به من حسن الثواب ورفع الدرجات بالجنة: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [40] لا ترهبوا سواي، فأنا المنقذ لكم من الضر الذي أوقعه فيكم القبط، وأنا الذي نجيتكم من الغرق وأغرقت عدوكم، وأنا الذي حميتكم في التيه فأطعمتكم وأسقيتكم وظللت عليكم الغمام لا أحد غيري.
{وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ} من القرآن على محمد صلّى اللّه عليه وسلم لكونه جاء: {مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ} من التوراة المشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد والإشارة إلى بعثة محمد بن عبد اللّه وإلى أنه خاتم النبيين ونبي آخر الزمان وأن من آمن به فقد آمن بالتوراة، ومن كذبه فقد كذبها: {وَلا تَكُونُوا} أيها الإسرائيليون: {أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} أي القرآن فتسنون الكفر لمن بعدكم ويقتدي بكم غيركم، يجب عليكم وأنتم أهل كتاب أن تكونوا أوّل مؤمن به، لأنكم تعلمون من كتابكم أني منزل هذا القرآن على هذا النبي الذي جاء نعته فيه: {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي} المسطورة في التوراة المبينة لذلك: {ثَمَنًا قَلِيلًا} فتكتمون ما فيها من وصف هذا النبي وكتابه لقاء ذلك الثمن اليسير البخس من حطام الدنيا الذي تأخذونه من قومكم وتضيعون ما لكم عند اللّه إذا صدقتم وآمنتم من الخير العظيم، وأنتم تعلمون أن الدنيا وما فيها بالنسبة للآخرة لا يعدّ أن شيئا: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} لا تتقوا غيري، فلا ينجيكم أحد مما تكرهون سواي.
وتقديم المفعول يفيد الحصر، أي احذروا عدم اتقائي لئلا تقعوا في الشقاء، وتيقنوا أن لا مخلص لكم غيري: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ} بأن تكتبوا في التوراة ما ليس منها فتغشوا حقها بباطلكم: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} الذي هو فيها لقاء ذلك الثمن الزهيد: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أن ما تكتمون منها حق وما تبدونه باطل.
وهذا الخطاب وإن كان خاصا برؤساء اليهود وأحبارهم الذين كانوا ينالون مالا من سفلتهم وجهلتهم لقاء ما يخلطون عليهم مما لم ينزل اللّه، إلا أنه عام في كل من يخلط الحق بالباطل، أو يخفي الحق ويظهر الباطل، وتؤذن هذه الآية العظيمة بوجوب إظهار الحق على كل أحد، وحرمة كتمانه وتبديله ومزجه بغيره مما هو ليس من كلام اللّه.
وكان سبب إقدامهم على ذلك لأمرين: الأول لأجل ما يأخذونه من حطام الدنيا، والثاني الخوف من أنهم إذا بينوا لهم الواقع مما هو مبين في التوراة عن صفات الرسول ولزوم اتباعه عند ظهوره، يؤمنون به فتذهب الرياسة منهم لأنهم يتبعونه ويتركونهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} مع المسلمين كما أمرتهم بالقرآن بإقامتها: {وَآتُوا الزَّكاةَ} المفروضة عليكم لأنها لم تفرض بعد على المسلمين، وقد تكرر أن ذكرنا أن الصلاة والزكاة لم تخل أمة منهما من لدن آدم إلى محمد صلوات اللّه وسلامه عليهما ومن بينهما من الأنبياء: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} من المسلمين وصلوا مثل صلاتهم جماعة بركوع وسجود، وذلك أن صلاتهم لا ركوع فيها أي آمنوا وأقيموا شعائر المؤمنين مع النبي محمد وأصحابه.
وأنزل اللّه في رؤسائهم قوله جل قوله: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} البر كلمة جامعة لكل خير وطاعة: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} فلا تعملون به، وذلك أن منهم من كان يأمر أقرباءه وحلفاءه وأصدقاءه باتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلم، والثبات معه على دينه سرا، ويقولون لهم إنه نبي آخر الزمان حقا، وإن التوراة تأمر باتباعه، وهم يعدلون عن الإيمان به حرصا على بقاء الرياسة بأيديهم، وما يأخذونه منهم من حطام الدنيا، أي كيف تفعلون هذا: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ} التوراة وتعلمون بما فيها من الحق والأمر باتباعه ومجانبة الباطل: {أفَلا تَعْقِلُونَ} أيها الأحبار والرؤساء والقادة، أن ذلك منقصة في دينكم ودنياكم، إذ لا يليق بالإنسان أن يأمر بما لا يفعل وينهى عما يفعل.
قال تعالى: {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} الآية: 88: هود.
وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

وفي هذه الآية تقريع وتوبيخ لهم عنى ما هم عليه.
ويؤذن الاستفهام فيها بالتعجب من حالهم والإنكار لأفعالهم.

.مطلب: في العقل ومعناه وأحاديث ومواعظ في الصبر والتقوى وغيرهما والصلاة وما خوطب به بنو إسرائيل:

واعلم أن العقل لغة الإمساك، وهو مأخوذ من عقال الدابة ليمنعمها من الشراد، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والأفعال القبيحة.
واصطلاحا قوة تهيء قبول العلم فتصير لصاحبها ملكة بميز فيها الخير من الشر.
وهو قسمان وهي وكسبي، والكسبي أفضل من الوهبي، لأنه يزداد تدريجا بسبب اتباع ما يستحسنه من أعمال الناس واجتناب ما يستقبحه من أفعالهم، والوهبي هو هو، إذ لا يستعمله صاحبه في الاتباع والاجتناب.
قال سيدنا علي كرم اللّه وجهه:
إن العقل عقلان ** فمطبوع ومسموع

ولا ينفع مطبوع إذا ** لم يك مسموع

كما لا تنفع الشمس ** وضوء العين ممنوع

روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.
وروى البغوي بسنده عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.
وهذا مما يؤيد أن هذه الآية عامة في كل من هذه صفته، وإن خصوصها في علماء بني إسرائيل لا يمنع عمومها وشمولها لغيرهم، وقيدها بهم لا يحول دون إطلاقها، لأن العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فعلى العاقل إذا أراد أن يسمع قوله ويقتدى بفعله أن لا يخالفها، إذ يصير محلا للانتقاد في الدنيا والعذاب بالآخرة، ولا يعمل لأجل الناس أو لإرضائهم، فقد قال صلّى اللّه عليه وسلم: من أرضي الله بسخط الناس كفاه اللّه شرهم، ومن أحسن فيما بينه وبين اللّه أحسن اللّه فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، ومن تحمل لآخرته كفاه اللّه أمر دنياه.
وعلى الإنسان أن يحسّن ما يخرج من لسانه ويلين جانبه، ويحلم عند الغضب، ويجتنب الحدّة مهما استطاع، فمن أكبر الشوائب وأفحش المصائب أن يكون المرء بذيء اللسان، شرس الطباع، خشن الجانب، سيء الآداب، تأخذه ثورة الغضب لأقل إساءة، والغضب يقبح صورة الغضبان، ويثلم دينه، ويعجل ندمه، وتبدو منه بوادر الحدّة لأدنى إهالة، وعلى الإنسان أن لا يغتر بحسنه وجماله وكمال هيئته دون أن يكون متحليا بعقل سليم وخلق مستقيم وعمل صالح، وينظر إلى قول القائل:
إلا يكن عظمي طويلا فإنني ** له بالخصال الصالحات وصول

ولم أر كالمعروف أما مذاقه ** فحلوا وأما وجهه فجميل

قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا} أيها الناس على تقوية إيمانكم باللّه ورسوله وعلى ما يصيبكم من مصائب الدنيا وعلى مشاق ما كلفتم به من العبادة وما نابكم من قسوة الفقر: {بِالصَّبْرِ} فإن الجزع والضجر يزيدان في المصيبة ويمحقان الأجر: {وَالصَّلاةِ} الدعاء إلى اللّه تعالى فيها، فإن ذكر اللّه مع الصبر يذوب معهما كل ضر، وانهما يهوّنان عليكم حب الدنيا بما فيها من رياسة ومال وسلطة وجاه: {وَإِنَّها} أي هذه الأمور التي أمرتكم بها ونهيتكم عنها من بداية الخطاب إلى هنا: {لَكَبِيرَة} ثقيل الأخذ بها على الناس، ويشق عليهم القيام بها، كما نريد: {إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} منهم، فإنها خفيفة عليهم، لأن قوة إيمانهم وصحة عقيدتهم وواسع يقينهم يسهل عليهم ما يقربهم إلى اللّه، ويكرههم بما يباعدهم عنه.
ثم وصف هؤلاء الخاشعين بأنهم: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يتيقنون: {أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} بالآخرة فيعترفون بالبعث بعد الموت وبالحساب والعقاب والثواب: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ} يوم القيامة، ومن اعتقد هذا هانت عليه الدنيا وما فيها، وأقبل بكليته إلى ربه.
قال بعض المفسرين إن الخطاب في هاتين الآيتين الأخيرتين للمؤمنين خاصة، وهو قول غير سديد، لأنّه يوجب تفكك النظم الجليل ويقطع المناسبة بينهما وبين ما قبلهما من الآيات، والأولى هو ما جرينا عليه من جعل الخطاب فيهما لليهود والمؤمنين معا لأن اليهود لا ينكرون أصل الصلاة والزكاة والصبر على المكاره في أمور الدين وانهم يعتقدون باليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار، وكذلك النصارى، لأن الشرائع، كلها منزلة من اللّه تعالى، وقد ذكرنا في سورة المؤمنين في الآية 52 أن أصول الأديان كلها واحدة، وقلنا آنفا إن التخصيص والتقييد لا يمنع عموم والإطلاق، فيدخل فيهما جميع الأمة، ثم أكد التحذير والتخويف عليهم وتفطنهم لنعمه على آبائهم، فقال عز قوله: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} من أهل زمانكم، فاحتفظوا أيها الخلف الحاضر بشرف أسلافكم المفضّلين، وكرر صدر هذه الآية بمثل [الآية 40] وستكرر أيضا في الآية 123 الآتية، وهذه الوصية الثانية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي} فيه: {نَفْس عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} لزمها في الدنيا، بل لابد أن تجازى هي نفسها على عملها.
واعلم أن التقوى كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه الإنسان، وهي كلمة وجيزة جامعة لكل خير، ومعناها امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وعبر بعضهم عما ذكر بقوله أن لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك، وقال آخر إذا أردت أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك أو اخرج من داره وكل غير رزقه.
وتقوى اللّه تتضمن ما تضمنه حديث إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء، وكذا ما تضمنه حديث جبريل الذي يسأل فيه حضرة الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان، لأن سائر أحكام التكليف لا تخرج عن الأمر والنهي، فإذا اتقى اللّه الشخص بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فقد أتى بجميع وظائف التكليف.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [الآية: 178]، وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} [الآيتين: 62 و63] من سورة يونس، فمن اتقى اللّه حسبما في الآية الأولى من الإيمان والإسلام فهو متق، والمتقي ولي اللّه، ومن اتقى مثلما في الآية الثانية فهو ولي، فصار معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث اتق اللّه حيثما كنت تكون ولي اللّه بتقواك إياه، ويحصل لك لوامح وصف الحمد والثناء في كل مكان وزمان اتقيته فيه، لقوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الآية: 187] من آل عمران الآتية، ويحصل لك أيضا الحفظ والحراسة من الأعداء لقوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [الآية: 121] من آل عمران الآتية أيضا، ويحصل لك التأييد والنصر بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الآية: 4] من سورة الطلاق الآتية، ويجعل لك أيها المتقي أيضا إصلاح العمل وغفران الذنوب لقوله تعالى: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الآية: 72] من سورة الأحزاب الآتية، ويجعل فيك النور لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الآية: 28] من سورة الحديد الآتية.
والتقوى تورثكم المحبة لقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الآية: 77 من آل عمران أيضا، وتورثكم الإكرام لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} الآية: 14 من سورة الحجرات الآتية، وتورثكم البشارة عند الموت بما يوجب لكم المسرة لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ} الآية: 10 من سورة يونس، وتورثكم النجاة من النار لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية: 72 من سورة مريم، ولقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} الآية: 28 من سورة الليل، وتورثكم الخلود بالجنة لقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} الآية: 123 من سورة آل عمران الآتية.
والتقوى التي تسمى تقوى هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات والتباعد عن المحظورات، وقد وصّى اللّه بها عباده فقال عز قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} الآية: 130من سورة النساء، ولهذا عرفها بعض العلماء بأنها اسم جامع للحذر من جميع ما أمر اللّه به أن يحذر منه، لأن العبد تارة بحذر من تضييع الواجبات، وطورا من المندوبات فيتقيه، وتارة يحدر فوات أعالي الدرجات فيتقيه بأن لا يشتغل بما دونها، ومرة يحذر ارتكاب المحرمات، وأخرى المكروهات فينقيه لئلا يقع فيها، وقال بعض العلماء المراد بالتقوى أن يتقي العبد ما سوى اللّه فيجتنب كلّ ما يشغله عنه، وفي هذا المعنى قيل:
من عرف اللّه فلم تغنه ** معرفة اللّه فذاك الشقي

ما يصنع العبد بعز الغني ** والعز كل العز للمتقي

وقال أبو الدرداء:
يريد العبد أن يعطى مناه ** ويأبى اللّه إلا ما أرادا

يقول العبد فائدتي ومالي ** وتقوى اللّه أفضل ما استفادا

واعلم أن التقوى ظاهرا وباطنا، فالظاهر ما يحل بظاهر البدن، وهو المحافظة على حدود اللّه تعالى، فلا يتجاوز شيئا منها ما استطاع، وإذا أكره يبادر حالا للاستغفار والرجوع، والباطن ما يحل بباطنه من الإخلاص في العمل وحسن النية، وقد اتفقت الأمة على فضلها ولزوم التحلي بها وعدم مرافقة غير أهلها، ولهذا قال:
ولا تمش إلا مع رجال قلوبهم ** تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر

لأن الذي يريد أن يعيش عيشة طيبة توصله إلى الراحة الدائمة في الآخرة، عليه أن يقضي حياته مع المتقين كي يكون حي القلب دائم اليقظة بعيدا عن الغفلة، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة التقوى هاهنا يشير إلى صدره الشريف مكررا لفظها ثلاثا لأنه محل القلب الذي هو بمنزلة الملك للجسد، فإذا صلح صلح كله، وإذا فسد فسد كله، كما جاء في الحديث الآخر الصحيح أيضا، وذلك لأن التقرى تورث خشية اللّه، وخشية اللّه تمنع صاحبها من كل سوء، قالوا أمر الرشيد بحبس رجل ثمّ سأل السجان عنه فقال إنه كثير الصلاة والدعاء في سجنه، فقال خله يسألني إطلاقه، فعرض له بذلك، فقال قل لأسير المؤمنين كل يوم يفي من نعمته ينقضي من محنتي، والأمر قريب، والوعد الصراط، والحاكم هو اللّه.
فلما بلغه الرشيد ذلك خرّ مغشيا عليه، ولما أفاق أمر بإطلاقه.
لهذا على العاقل أن يخشى اللّه فيما يقول ويفعل ويعمل بالتقوى، وقال الغزالي: التقوى كنز عظيم فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر ورزق كريم وملك عظيم، لأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فيها.
ومن علامة التحقق بالنقرى أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يشعر، ومن جهة لا تخطر بباله، لأن من يتقي اللّه يقف عند حدوده ويجتنب معاصيه، فيخرجه من طرق الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة، ويرزقه من حيث لا يرجوه.
وقال ابن عباس:
يخرج اللّه المتقي من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة.
وعنه أيضا قال من اتقى اللّه وقاه كل شيء، أي حفظه مما يخافه، وقال داود بن نصر الطائي: ما خرج عبد من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه اللّه تعالى بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس.
وقال ابن الوردي:
واتق اللّه فتقوى اللّه ما ** جادرت قلب امرئ إلا وصل

ليس من يقطع طرقا بطلا ** إنما من يتق اللّه البطل

هذا وإن الرجل إذا وفق لنقوى اللّه على ما ذكرنا لازمته الاستقامة، وهي كلمة جامعة لأنواع التكاليف.
قال ابن عباس ما نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في جميع القرآن أشد من قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ} الآية: 114 من سورة هود ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم شيبتني سورة هود.
قال القشيري الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها تحصل الخيرات ويكمل نظامها، لأن من لم يكن مستقيما في حاله ضاع سعيه وخاب جده.
ودرجة الاستقامة هذه لا يطيقها إلا الأكابر الربانيون لما فيها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات، لأنها تقتضي القيام بين يدي اللّه تعالى على حقيقة الصدق، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: استقيموا ولن تحصوا.
أي لن تقدروا على إحصاء لوازم الاستقامة كلها، وهذا لا يمنعكم من العكوف على الاستقامة، لأن ما يحصل منها يكفي عن غيرها، ولهذا قال العارفون ذرة استقامة خير من ألف كرامة.
وقال الكاملون ما الكرامة إلا الاستقامة.
وعلى المنقي طالب الاستقامة أن يحفظ اللّه تعالى بطاعته وعدم التعدي على عباده ليحفظه برعايته ويجده أمامه فيما ينزل به من الشدائد، وأن يكل أمره إليه، فلا يسأل غيره في قضاء حوائجه، لأن خزائن الوجود كلها بيد اللّه تعالى، وأزمّتها إليه، ومفاتحها منوطة به، فلا معطي ولا مانع سواه، وعليه أن لا يطلب الإغاثة إلا منه وحده، كما أنه لا يخص بالعبادة غيره، وليتحقق هذا المتقي المستقيم أن جميع ما في الكون علويه وسفليه لو أرادوا أن ينفعوه بشيء لم يقدره اللّه له لا يقدرون، كما أنهم لو أرادوا أن يضروه بشيء لم يقدره اللّه عليه لن يقدروا.
فإذا اتقيت أيها الإنسان واستقمت هان عليك أمر الدنيا والآخرة، ووجدت اللّه تعالى أمامك في جميع أمورك.
فعليك أن تتعرف إليه حالة الرخاء والصحة لتجده حالة الشدة والمرض، كما وقع لأهل الغار في الكهف حينما وقع حجر أمامهم وسد عليهم باب الخروج. هذا وقد أوردنا ما يتعلق في بحث الاستقامة في آية هود المذكورة آنفا مع ما أوردناه في حق التقوى هنا ففيه كفاية.
ولنرجع إلى تفسير الآية التي نحن بصددها بعد أن شطح بنا القلم فيما استطردناه، وهي أن كل نفس لابد وأن تجازى بما عملت هي نفسها عليه، فلا يكون بحالة من الأحوال مجازاة غيرها عنها، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَة وِزْرَ أُخْرى} الآية: 19: من سورة فاطر: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَة} إذا كانت كافرة مطلقا، وإذا كانت مؤمنة إلا بإذن اللّه، ولمن يرتضيه: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْل} عنها أي فدية تقيها من عذاب اللّه: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فيه من العذاب، وهذه الآية بمعرض الرد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم أصحاب موسى عليه السلام يشفعون لهم في الآخرة.
قال تعالى معددا بعض نعمه عليهم بقوله عز قوله في قصة ثالثة ضمنها قصصا أخر متتابعة من أعمال اليهود وهي: {وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} وهؤلاء المخاطبون لم يشهدوا عهد فرعون وإذاقتهم عذابه بالعسف، إلا أنهم يعلمون ذلك بالاستقراء وبذكره بالتوراة: {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ} أي قتل الذكور وإبقاء الإناث للخدمة: {بَلاء مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيم} {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ} وجعلنا فيه مسالك لتقطعوه وتتخلصوا من فرعون وقومه.